وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ – محرم ٤ – أسلوب القرآن الكريم في تنمية الشعور بالحياة الشمولية
عناصر الحديث
• نتيجة التفكير والاتصال بالقرآن الكريم والعترة تبين للإنسان وظيفته كموجود على الأرض يجب أن يجسد صفات الله تعالى في الأرض، ويتخلق بأخلاق الله تعالى.
• شبهة: القرآن الكريم كتاب خاطب الناس الذين عاشوا في الصحراء بما يناسبهم، واليوم هناك حضارة كبيرة، فهذا الخطاب البسيط لا يقنع إنسان اليوم .
• منهج القرآن في توجيه التفكير الإنساني
• أسلوب القران الكريم في تنمية الشعور بالحياة الشمولية
قال الإمام الرضا :” إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام “.
علاوة على كون حب الإمام الحسين يحط الذنوب العظام، فله القدرة على تخليص النفس من كل خوف، باعطائها شحنة عميقة من القوة والبسالة، لذلك جدير بالإنسان أن لا تكون هذه الأيام من إحياء مصاب الإمام الحسين مجرد مناسك يؤديها، بل يعتبرها غذاؤه الروحي الذي يقدمه له الإمام الحسين والعقيلة زينب وأبطال كربلاء.
أيام محرم من نفحات الله تعالى، لأنها تعدل وضعية الإنسان، فالأمور سوف تنتظم حينما يكون الحسين قبلة العقل، والفضائل تسبق الهوى، حينما يعيش الإنسان عشرة أيام على الأقل يتنفس من روح الإمام الحسين ، فهو بمثابة غسيل معدة روحية لكل المأكولات الضارة التي تناولتها الروح من ضياع جهد الروح في أمور لا قيمة لها، و مجالس عديمة الفائدة طول السنة.
إن قصتنا مع الحسين أنه يجرنا إلى عالم صافٍ نقي طاهر، وفي المقابل تجرنا نفوسنا والدنيا إلى عالم المادة، وعالم ( إثاقلتم إلى الأرض) ويأتينا النداء ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ)
وخطاب (أرضيتم) خطاب استنكاري لعاقل: مع الأسف، كانت التوقعات منك أكبر من ذلك، للأسف أن تتقلص طموحاتك وتتضاءل إلى هذا المستوى،
فهرسة للحديث خلال الأيام الماضية والقادمة:
(وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ) تعبر عن ألم الإمام في سبب انكباب الإنسان على الدنيا، واختياره طريق الباطل رغم وضوح طريق الحق، وفي عرض موانع اختيار الحق إجمالا:
الأول: الأصل أن الناس في الدنيا حالهم كأنما الدنيا قد نفثت عليهم بمادياتها مخدر أوقف حواسها عن الحركة، كما يقول أمير المؤمنين :”الناس نيام“، بالتالي قراراتهم لم تكن واعية وسليمة، بالإضافة إلى جهود شياطين العصر والإعلام المضل الذين يسعون لنفث سمومهم في العالم، لذا من الضروري الانتباه والاستيقاظ والتفكير، من هنا يأتي دور جهاد التبيين .
ما الذي يؤكد لنا مسيرة التفكير الصحيحة؟ (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.)
ثاني الموانع: خلط في فهم أسس الحياة وقوانينها
الثالث : نسيان ميثاق العبودية والربوبية
الرابع: سيطرة الشبهات على الذهن، مثل: هل يحتاج الناس الدين فعلا؟ هل نحن مسيرون أم مخيرون ؟ لماذا يسمح الله بوجود الشر والظلم في العالم ؟ لماذا يتفاوت العطاء الالهي بين الناس؟ ثم بعد ذلك لابد من فهم أسس العبودية .
ما هو منهج التفكير الصحيح في الإسلام؟
ذكرت أن نتيجة التفكير والاتصال بالقرآن والعترة تبين للإنسان وظيفته كموجود على الأرض بأنه يجب أن يجسد صفات الله في الأرض، يتخلق بأخلاق الله، ،
مهام هذه الوظيفة: ان يكون عبدا خاضعا لله، الثانية: ان يكون قائما بالقسط، الثالثة: ان يعمل على إعمار الأرض،
هناك شبهة مطروحة وهي أن القرآن الكريم كتاب خاطب الناس الذين عاشوا في الصحراء وعايشوا في إطار أجوائهم الضيقة الإبل والسماء والنجوم، واليوم هناك حضارة كبيرة ، بالتالي فهذا الخطاب البسيط لا يقنع إنسان اليوم.
الجواب: إن القرآن الكريم بالدرجة الأولى لا يعطي أهمية للحضارة المادية، ولا يقيم لها أيّ وزن واعتبار، فهو يخبرنا عن عاقبة مدينة (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)، ويخبر أنه حينما غلب الهوى عليها دمرها الله تعالى،
ثانيا: لم يدّع القرآن أنه يهدف إلى صنع حضارة ماديةـ، لأن ذلك ليس من أولوياته، بل أن أهم أولويات القرآن الكريم أنه (هُدى للناس)، أي يتعامل مع الإنسان على أنه روح وفطرة إلهية وليس جسد، فيعطيه كل تعاليم صنع الروح عن طريق إخبار مباشر، أو التزام بشريعة، وبعادات، وواجبات، ونواهٍ، أو إخبار بقصص الأنبياء،
فتربية الروح هي تخصص القرآن . أن يصنع روح الإنسان الفاضلة الطاهرة، ثم يرسل له بارقة صنع الكهرباء، أو التلفزيون، أو الأجهزة الالكرتونية، أو بناء ناطحات السحاب، حتى تكون الحضارة المبنية حضارة ومدينة فاضلة، وإلاّ فإن صنع حضارة دون نفوس طيبة لا شك أنها سوف تؤدي إلى حضارة استكبارية كالتي نراها اليوم .
وفي مجال صنع روح الإنسان، ما الفرق بين أن يقول (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟) وبين أن يقول أن هذا العقل الذي صنع كل هذه الحضارة كيف خلق؟ فكلها صنع الله . إنما تحدث في القرآن الكريم عن الابل لأنه حينما يخاطب الإنسان الصحراوي الذي لا يملك إلاّ خيمته وبعيره، فهذا يعني مخاطبة كل الناس وفق ممتلكاتهم المتعددة..
فوظيفة الإنسان أن يكون خليفة الله في الأرض بأن يتخلق بأخلاق الله، ومهماته العبودية والعدل وإعمار الأرض،
والأدوات التي أعطيت له للقيام بهذه المهمة ثلاث:
الأولى: سجود الملائكة له، يعني تسخير الكون له،
والأداة الثانية: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ).. وهذه الأسماء المطلوب أن يتخلق بها جعلها الله تعالى (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه)، في عباد مُخلَصين هم النبي ﷺ وآل بيته. فإذا ما أخلص لهم الولاية فسوف تتجلى صفات الله تعالى فيه،
الأداة الثالثة: هي الوعي بالحرية واتخاذ القرار .. ينبغي أن يقتنع أنه مختار فلا يلقي باللوم على غيره عند أي خطأ يصدر منه.
بقيت نقطة في منهج الإسلام في التفكير، بل منهج كربلاء في التفكير، وهي أن أهم عنصر جعل الذين اختاروا نصرة الإمام هو التفكير الشامل للعمر، كما أن أهم سبب في المقابل جعل الذين يقاتلون الإمام هو التفكير الحصري الضيق الضئيل للعمر .
يخطط الإنسان لحياته على مراحل، فهناك خطة أسبوعية، وأخرى شهرية وثالثة سنوية ورابعة خمسية وعشرية، وهذا التخطيط ضروري بناء على وصايا أمير المؤمنين :”عليكم بتقوى الله ونظم أمركم” ، لكن غلطة الإنسان الكبيرة التي يمكن تسميتها غلطة العمر، أنه لا يحسب أو يفكر لأكثر أو أبعد من هذا.
الذين قاتلوا الإمام الحسين خافوا نصرته بسبب إما تجارة يخسرونها، رغم أن الإمام ضمن لعمر بن سعد أن يخلفها له، فقال : أخاف أن يهدموا داري. فقال :” أنا أبنيها لك ، قال عمر :” أخاف أن يؤذوا عيالي”. فقال عليه السلام:” أنا احفظهم لك“، لكن عمر بن سعد لأنه لا يكن يتمكن أن يفكر بأوسع من هذا الإطار فقد خسر الدنيا والآخرة، مقابل أنصار الإمام الحسين الذين أيقنوا أن الجنة قريبة جداً لهم بنصرة الحسين ، وهذا اليقين محا كل تلك المخاوف .
التفكير الصحيح في القرآن الكريم، والذي تجلى في كربلاء هو امتداد العمر، يخطئ الإنسان حينما يتخيل أن عمره ينحصر في ستين أو سبعين أو مئة سنة، بل أن عمره يمكن تقديره بمليون، بل ملايين، بل شيك على بياض يتضمن أصفار يمكن له كتابتها كما يشاء، فكما يفكر في عمره الحالي المتوقع، ينبغي عليه التفكير في ملايين السنين التي سوف يعيشها .
لذا، من يكفر بالله ثمانين سنة يخلد في النار لأن الروح أبدية لا تموت، كذلك من ينصر دين الله يُخلد في الجنة، لأن الروح لا تموت، فالإنسان لديه فرصة هذا العمر ليخلد نفسه في الجنة أو في النار،
وكما أن في عصيان الله تعالى تبدأ النفس بأخذ الصفات الحيوانية أولا بدرجة كالحمار أو كالكلب أو كالأنعام، ثم مع مرور السنين الطويلة تتحول هذه الصفة إلى ملكة وتصبح قوية بالشكل الذي تأسر كل الرغبات الفطرية، وهنا يصبح الإنسان حقيقة حيوان، لا مثل الحيوان،
ففي المقابل حينما تأخذ النفس الصفات الإلهية، ثم تتمحض فيها عبودية الله تعالى، في البداية كما يقول عن المؤمنين (لهم درجات)، إلى أن تسقط الكاف فيصبحون (هم درجات)، أي هم مقاييس الإيمان، فيكون كما يعطيه القرآن هذا الامتياز بلقب (عبده) أي مقام العبودية الخاص،
والقرآن الكريم حتى ينمي في الإنسان هذه الرؤية الشمولية للآخرة، يعرض مفهوم الحياة الطيبة ، في البداية يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) وهذا يعني أن الحياة التي لديكم الظاهرة في التنفس والحركة، ليست هي الحياة الحقيقية. فهناك حياة أخرى من خلال هذه الشريعة والدعوة الإلهية، تحكيها كل اية تبدأ ب (يا أيها الذين امنوا ) .. .
ثم يسمي هذه الحياة الجديدة بالحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ،
في الغالب يخطر بالبال أن هذه الحياة ليست في الدنيا بدليل أن (الدنيا دار بلاء وتعب) ، ولا تخلو من الضرر والألم والآفات، وأمثال ذلك، فالدنيا “دار بالبلاء محفوفة“.
وثانيا : مادام الإنسان في الدنيا فيجب عليه أن يسعى كما يصف القران الكريم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وهذا يتطلب مشقة ..فلا تحصل هذه الأمور بكن فيكون،
ثم ثالثا هناك فرق بين {فلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وبين (نُطيبنَّ حياته).. لنحيينه: أي نعطيه حياة، إذاً، هذه الحياة ليست من طبيعة الدنيا.
كذلك هذه الحياة الطيبة ليست في الآخرة، بدليل أنه قد ذكر الجزاء الأخروي {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}..
يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان أن الآية تقدم جزاءين: الأول في (لنحيينه حياة طيبة) والثاني في ( ولنجزينهم أجرهم )، فالجزاء سيكون يوم القيامة ..
بالتالي فالحياة الطيبة لابد أنه سوف يراها في دار الدنيا .. وهذا يناسب معنى (إنما تجزون ما كنتم تعملون)، أي أنه لن يذوق الإنسان الجنة في الآخرة إلا حينما يعيشها في الدنيا، وهذا يطرح علامات استفهام مثل كيف تكون هذه الحياة الطيبة في الدنيا؟
يعطينا القرآن الكريم لمحات منها بقوله في آية الكرسي : (الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور )، وتعبير الإخراج بالفعل المضارع يعني أنهم ما داموا في حالة ولاية الله فهم في حركة من ظلمة إلى نور،
ويعطينا الإمام الصادق أيضاً لمحة منها حينما يسأله رجل أن يدعو له بالجنة فيقول له ( أنت في الجنة فادع الله أن لا يخرجك منها،) فيتعجب الرجل فيوضح الإمام له ذلك بقوله (ولايتنا هي الجنة).
وهذا يعني أن الإنسان لو عاش الثقلين في روحه أي ارتباط بالعروة الوثقى المتمثلة بالقرآن والعترة، سوف يشعر بهذه الولاية تحيط به، وترعاه، ويشعر أنه متعلق بأسباب فوق السموات والأرض، حينما يقال له (ادع وظن حاجتك بالباب) ، لن يشعر بالقلق فحاجته في يد امينة سوف تصل له حينما يكون في مصلحته ذلك،
وحينما يقرأ أن الله قادر على كل شيء، يشعر باطمئنان أن أموره وأمور الإسلام والمسلمين سوف تؤول إلى خير ما دامت في عين الله عز وجل، هذا الاطمئنان هو الجنة.
وفي مرحلة أخرى: يذكر أن للإنسان آلة خاصة لإدراك الحق، حينما يقول (أولئك هم أولو الألباب) ، واللب هو القلب، يعني هناك قلب غير القلب المعروف، وأصحاب هذا القلب هم من يتفكر في خلق الله.
ثم يبين القرآن الكريم كيفية تفعيل هذا القلب، فيقول كما أن حياتك المادية قائمة على جسدك الذي له حواس يعيش بواسطتها كالسمع والبصر والتذوق والشم والحركة، كذلك الحياة الطيبة للروح قائمة على روح لها حواس غير مقيدة ،
فيحدد للروح القلب وهو المركز الذي يربط الحواس: ثم يحدد وظيفة هذا القلب الداخلي عن طريق وصف الغافلين فيقول : وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ إذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أولئك كَالأنعام، بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الْغافِلُونَ، يصف الغافلين بأنهم أضلّ من الأنعام رغم أن لهم حواسهم المعروفة، وفيه إشارة إلى تعطل الحواس الروحية المهمة لإدراك الحق .
وهناك آيات يثبت لهم فيها البصر العادي الجسدي، ولكن ينفي عنهم البصر الروحي، فيقول: (وتراهم ينظرون إليك، ولكن لا يبصرون)، فهناك نظر ظاهري، وبصر روحي. أي يعرفون شكلك الظاهري ونسبك، ولكن شخصيتك الحقيقية المتمثلة بالرسالة لا يعرفونها،
وهذا منهج العترة أيضاً، في التركيز على وجود عالم آخر وراء عالم الدنيا: في البداية يلفتنا امير المؤمنين إلى عالمين واحد مرئي بأبصارنا، والثاني وراء الستار ، فيقول :” إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير ينفذها ببصره، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزوّد، والأعمى لها متزود ” .
وهذا البيان يتضمن حث وتشجيع أن لا يكتفي الإنسان بالنظر إلى ظاهر الدنيا بل لابد من انفاذ النظر من الظاهر إلى الباطن ..
ما معنى البصير والأعمى في بيان أمير المؤمنين ؟
يقول عليه السلام : ” ألا إن للعبد أربعة أعين عينان يبصر بهما أمر دنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب، وإن أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه .”
بالتالي يجب أن تفتح العينان التي في القلب لترى. وقد رأى أمير المؤمنين حينما قال:”ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته ومعه وفيه “
والقرآن الكريم يفرق بين النظر والرؤية كذلك في مورد آخر..
حينما يقول ” وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ” . بينما يحث المؤمنين على النظر ، فيقول “أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ” يعني أن الناس مأمورون بالنظر في الملكوت، وبالبحث عن أسرار الكون، كما فعل إبراهيم حتى يفتح الله تعالى على بصائرهم كما فعل بابراهيم فأراه ملكوت السموات والأرض .
إبراهيم هاجر إلى الله عز وجل، وهام عشقاً به فأراه الله عالم الملكوت، والناس مطالبون بالنظر في الملكوت حتى يمن الله تعالى علينهم بالرؤية .
بل أكثر من ذلك ، يفصل النبي ﷺ في الحواس الروحية فيذكر حاسة الشم فيقول ﷺ :” تعطروا بالاستغفار لا تفضحنكم روائح الذنوب ” أي أن هناك من عباد الله من يمتلك حاسة شم باطنية روحية قد يتأذى من رائحة الذنب التي تصدر منكم فتفضحكم، وحاسة الشم هذه تجلت في نبي الله يعقوب حينما قال : (إني لأشم ريح يوسف)، وهو على بعد أميال من قميصه .
وبمقدار ما تتقوى الحواس الروحية ( البصر، الشم، السمع ) بالإضافة إلى ما يشملها وهو التفكر والتدبر ، أو ما يطلق عليه بالوعي التجاوزي، أي أن يتجاوز الإنسان عالم الظاهر إلى ما وراءه، يتمتع الإنسان بحياة أخرى غير الحياة البدنية وراء هذا العالم .
بل تطغى هذه الراحة فيها على التعب الدنيوي، لذلك يقال : “ما ضعف بدن عما قويت عليه النية” . ” العاقل إذا شاب شب عقله “،
إذاً، التعرف على عالم الملكوت يفتح باباً للنفس على عالم كان يتخيله خيالياً ، أحياناً الإنسان يرى فراشة تطير من وردة إلى وردة أخرى، فيغبطها على قدرتها على التنقل السريع والطيران، لكن الفراشة كأنها تتعجب من تلك الأمنية لأن قدرة الإنسان على الطيران تفوق تلك الحدود بكثير ،
مشكلة البشر أنهم يعتقدون أن الله خلقهم للسير في الطرقات ، للبحث عن لقمة العيش، بينما الله تعالى خلقهم للطيران ..
الإمام الصادق : ” اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب“،
كذلك أخبر رسول الله ﷺ عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم كان يمشي على الماء، فقال: لو زاد يقينه لمشى في الهواء
–ينقل أن الحواريين فقدوا نبي الله عيسى فخرجوا يطلبونه، فوجدوه يمشي على الماء، فقال بعضهم: يا نبي الله أنمشي إليك؟ قال: نعم، فوضع رجله ثم ذهب يضع الأخرى فانغمس، فقال: هات يدك يا قصير الإيمان!
فالإنسان بعد أن عرف أن لديه حواس روحية يمكن أن تفتح له أبواب الحياة الطيبة جدير بأن يجتهد في تنميتها ليعرف كيف يطير بقلبه، فالإنسان خلق ملكوتياً، ويحمل في نفسه قدروات وخزائن وأسرارا كثيرة ، بالضبط كما أن القرآن الذي يتضمن ٦٠٠ صفحة فقط ، هو تبيان لكل شيء، لأنه يضم بين معارفه معارف وكل اية تفتح أبواب من المعارف.
وحينما يقول النبي الأكرم ﷺ :”الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا“ ، هو ﷺ يريد أن يقول أن الإنسان إذا لم يكتشف قواه الروحية سينتبه بعد موته، إلى أنه عاش في دنياه كالفقير الذي يشكو الفقر ، وكان يملك في الحقيقة خزائن مليئة بالمال .
مع اتضاح صورة الحياة الطيبة في القرآن الكريم ومن خلال الروايات، تتجلى روعة ليلة العاشر التي صلى فيها الإمام الحسين بحيث كانت أحلى صلاة له ، ولأصحابه، لأنهم في تلك الليلة تحقق الهدف من الصلاة، وقد رأوا ملكوت السماء، وأزيل عنهم حجاب الدنيا، وقد كشف لهم عن أبصارهم الحجب، فرأوا أماكنهم في الجنة .
هذه هي صلاة الحسين التي ظهرت آثارها في ليلة العاشر من المحرم
والحمد لله رب العالمين
زر الذهاب إلى الأعلى