الكرامة الحسينية

استقبال شهر محرم الحرام – ٣٠ ذو الحجة ١٤٤٣

مقدمة : استقبال شهر محرم الحرام     ٣٠ ذو الحجة ١٤٤٣

عناصر الحديث:

▪️  ما معنى قول الإمام الصادق   :”تزورون خير من أن لا تزوروا، ولا تزورون خير من أن تزوروا” .

▪️  كيف تُفَسر موجة الحزن و العزاء ولبس السواد والبكاء على الإمام الحسين لغير الموالين؟

▪️  لماذا عنوان ( وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ)؟

يروي العلامة المجلسي في بحار الأنوار أن الإمام الصادق قال للمفضّل: “تزورون الحسين؟ قال المفضل:  نعم . فقال الإمام : ” تزورون خيرٌ من أن لا تزوروا، ولا تزورون خير من أن تزوروا”. قال المفضّل: قطعت ظهري يابن رسول الله، فقال :”تالله إن أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيباً حزيناً، وتأتونه – أي الحسين – أنتم بالسفر والزينة، كلا حتى تأتوه شعثاً غبرا “.

هذه كلمة شديدة حادة من الإمام الصادق لها معان ثقيلة، فالجميع يفهم معنى قوله تزورون خير من أن لا تزوروا، ولكن ماذا يعني قول الإمام لا تزورون خير من أن تزوروا” ؟ وهل يكون عدم زيارة الإمام الحسين أفضل من زيارته ؟ وكيف يمكن تخيل ذلك، وأين ذهبت روايات أن زيارة الحسين تعادل سبعين حجة وغير ذلك ؟

    وجود الإمام الحسين في هذا العالم من أجل إحداث التغيير في الوجود، وقد أظهر ذلك بكلمته إنما خرجت لطلب الإصلاح، بمعنى أننا لن نكون زواراً وحسينيين إلا إذا أوجدنا التغيير في حياتنا، ويعبر القرآن الكريم عن عالم الدنيا بأنه عالم متغير متبدل، لا يسكن أبداً إلى يوم القيامة، وأن يوم القيامة هو يوم رسوّ سفينة الوجود، يسألونك عن الساعة أيّان مرساها، أي أن كل هذه المنظومة، هي في حالة تحرك وتبدل من موقعٍ لآخر، منذ خلق الله تعالى آدم إلى يوم القيامة.

ولا شك أن أقدس مافي هذه المنظومة هو الإنسان، وحركته أكملها لكونها اختيارية، ولا يقصد بالحركة التنقلات البدنية والفيزيائية التي يحدثها الإنسان، بل التغير في أبعاده الأساسية والعميقة وهو القلب.

وفي النصوص الدينية شواهد على ذلك، كقوله تعالى “ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم“. فلا شك أن المسلم يدرك أن الإسلام يطلب منه البعد القلبي للعمل، فلا يكفي قيام الجوارح بالفعل بأداء الصلاة والصوم والحج، وتقديم الخمس، بل يشترط تفاعل القلب مع هذه العبادة .

     

وهذا ما نجده في الروايات التي تتحدث عن الصلاة، لا بعنوان أنها حركات بدنية أشبه بتمارين رياضية، بل معراج الروح للمؤمن، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا يمكن أن تكون مجرد الحركات الظاهرية هي المفيدة والموجبة لرقي الإنسان .         

فيقول الإمام :”إذا رأيتم الرجل يحسن صلاته ويمشي بتخشع فمهلاً مهلاً، فلا يغرّنكم فربما عادة تعوّدها ولو تركها استوحش، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وتأدية الأمانة ” . فيمكن أن يصبح المظهر الخارجي للعمل مظهر وعادة، لذلك لابد من وجود أصول روحية تسند ذلك المظهر، وهي الصدق والأمانة .

وقالوا أيضاً في الروايات أن جزاء الحاج هو طهارته من الذنوب، وعودته نقياً كما ولدته أمه، ولكن في نفس الوقت حينما يتعجب أحد أصحاب الإمام الصادق من كثرة الحجيج، فيقول له الإمام :”ما أكثر الضجيج، وأقل الحجيج “. بمعنى أن هذه الطهارة من الذنوب لا يحصل عليها إلا قليلون من تلك الملايين القاصدة إلى بيت الله الحرام.

  فهنا أيضاً يقول الإمام ” لا تزورون خير من أن تزوروا “، لأن الحسين من أهم شعائر الدين، وهذه الشعائر قلبية لا شكلية، وحتى إذا كانت شكلية كالحث على التباكي مثلاً، فهو من أجل أن يحصل البكاء ويتحرك الوجدان.

من الواضح أن موجة الحزن التي تعم العالم الشيعي خلال شهري محرم وصفر، تضع علامات استفهام أمام الجيل الجديد، وحتى لغير الشيعة، فلماذا الحزن أولاً ، ولماذا للإمام الحسين بالذات وليس لرسول الله ؟

الجواب باختصار أن الشريعة قد أبرزت رسول الله على أنه أكمل الوجود، ثم أن رسول الله قال:” حسين مني وأنا من حسين“، وتعبير (مني) يلزم الوقوف عنده طويلاً، فحتى لو قيل أنها بنفس معنى ” بضعة مني“، أي أن “لحمه لحمي، ودمه دمي“، باعتبار كونه حفيده فكيف يمكن تفسير (وأنا من حسين) ، أن رسول الله من الحسين ؟

لا شك أن أيّ عاقلٍ منصفٍ سيفهم أن رسول الله يقصد وجود وحدة روحية بينه وبين الحسين ، تتمثل في وحدة الهدف والعمل والرسالة، أي أنه امتداد لرسول الله في رسالته، وقد كان الناس يومئذٍ يرون فيه صفات رسول الله ، ولذلك كانوا يخاطبونه بـ ( ابن رسول الله )، وهذا يعني أن أيّ ألمٍ وصل إليه فهو ألم رسول الله ، حتى الخيول التي دكت جسده الشريف..

ألم تك تدري أن روح محمــــد        كـقرآنه في سبطه متجســــد

فـلو علمت تلك الخيول كأهلها         أن الذي تحت السنابك أحمد

نعم، هو جرح ثقل النبوة، وانتهاك حرمة قدسية السماء، جرح من خاطبه الله تعالى بحنان المحب “طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى “، وقربه إليه فكان “كقاب قوسين أو أدنى“.

          يقولون لم البكاء؟ وهم يروون في كتب التاريخ، ويقرّهم الذهبي على صحته في تلخيصه، وتصحيح الذهبي للأحاديث دليل عندهم على صحتها، يروون عن ابن عباس أنه قال:” رأيت رسول الله في المنام ( وهم يروون أن من رأى رسول الله ﷺ، فقد رآه واقعاً ) بنصف النهار أشعث أغبر ومعه قارورة فيها دم يلتقطه أو يتتبع فيها شيئاً، قلت:” يا رسول الله ما هذا؟ قال:” دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم. وبعد سماع الناس بخبر شهادة الحسين تتبعوا ذلك اليوم، فإذا  هو نفس اليوم العاشر من المحرم .

حينما يحزن رسول الله ﷺ، فهذا يعني أن العرش وأركان السموات قد اهتزت، وكيف لا، وقلب رسول الله ﷺ هو مهبط الوحي وعرش الرحمن، وورد في زيارة الإمامأشهد أن دمك قد سكن في الخلد واقشعرت له أظلة العرش، ثم تأتي العبارة الأخرى وبكى له جميع الخلائق، وهو ما تشرحه كتب أهل السنة من تفاصيل أحداث يوم عاشوراء، ليكون الجواب على السؤال الثاني: لماذا الحسين بالذات وليس أحد آخر ؟،

لأن هناك خصوصية كونية لقتل الإمام الحسين في العالم.

روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص 196 عن أم حكيم قالت : قُتِل الحسين وأنا يومئذ جويرية فمكثت السماء أياما مثل العلقة . ثم قال : رواه الطبراني ورجاله إلى أم حكيم رجال الصحيح .

كذلك ما روي من كسوف الشمس: عن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين بن علي انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا أنها هي ( أي القيامة )، رواه الطبراني وإسناده حسن .

ونقل ذلك أيضاً السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) وأرسله إرسال المسلمات فقال في ص 207 : ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة والكواكب يضرب بعضها بعضا وكسفت شمس ذلك اليوم واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ثم لا زالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك ولم تكن ترى فيها قبله .

كذلك من الظواهر العجيبة والتي ترويها صحاح الأحاديث الدم الذي ظهر على الجدران : قال ابن جرير الطبري في ج4 ص296 : قال حصين : فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع

وكذلك ما رفع حجر إلا وجد تحته دم : روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص 196 عن الزهري قال : قال لي عبدالملك أعلمني أي علامة كانت يوم قتل الحسين فقال قلت لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلا وجد تحتها دم عبيط فقال لي عبدالملك إني وإياك في هذا الحديث لقرينان ، رواه الطبراني ورجاله ثقات .

والأعظم من ذلك أنه حتى البعير المسروق من خيام الإمام لم يستطيعوا أكله ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص 196 : عن دويد الجعفي عن أبيه قال : لما قتل الحسين انتهبت جزور من عسكره فلما طبخت إذا  هي دم، رواه الطبراني ورجاله ثقات . ذبحوا جزوراً فصار كله دماً !

أما الفتن .. والحوادث الغريبة : قال ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص220 : وأما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا ، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون

وقال في ج6 ص 259 : وقد روى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمارة عن أم سلمة أنها سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي وهذا صحيح ، وقال الهيثمي في (  المجمع  ) ج9 ص 199عن الخبر الأخير : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح  

كل هذه الأمور الكونية جعلها الله من أجل يتبيّن للناس أيّ رجل بينهم قد قُتِل ، وأيّ قتلة ؟

كذلك، هناك روايات صحيحة واردة في مصادر جميع المسلمين تقارن بين جريمة قتل نبي الله يحيى وقتل الحسين فقد روى الحاكم في مستدركه ج3 ص 178  ( 195 ) بستة طرق عن ابن عباس قال :” أوحى الله تعالى إلى محمد   إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً ” ،

وابن كثير نفسه يقول في كتابه ( قصص الأنبياء ) ص 416 : وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام … عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق فإذا  هو بدم يحيى بن زكريا يغلي فسأل عنه فأخبروه فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن ،    

وروى الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) ج3ص312 عن ابن سيرين : لم تبك السماء على أحد بعد يحيى ( ع ) إلا على الحسين ،

فالإمام الحسين بهذه الروايات هو ثأر الله، وقد أبرز الله تعالى غضبه جل جلاله، على ما جرى في كربلاء على لسان سيد الشهداء الحسين فقال يوم عاشوراء :  اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم“،

فاعتبر جريمة قتله في كربلاء مقرونة بمن جعل لله ولداً، أو جعلوه تعالى ثالث ثلاثة، أو من عبد الشمس والقمر، وهو الشرك. من هنا، فقتل الحسين بمعنى آخر هو قتل التوحيد وقتل الدين .

والربط بين قتل نبي الله يحيى وقتل الحسين يوضح للمنصف أن قتل الحسين جريمة عظيمة من جرائم التاريخ البشري، أراد  تعالى أن يخلدها كما هو الحال في جريمة قتل نبي الله يحيى ، وهذا ما يؤيد زيارة الحسين بكونه وارث الأنبياء.

فهو وارث آدم صفوة الله، ونوح نبي الله، وابراهيم خليل الله، وموسى كليم الله، وعيسى  روح الله، ومحمد حبيب الله. والأنبياء سفراء الله على أرضه وحججه على خلقه، فسفك دمائهم يُعدّ تعّدٍّ على حرمة الله عز وجل، والطالب بثأرهم هو الله جلّ وعلا. فقتل الحسين يعني قتل للصفوة، وللنبوّة، وللخلّة، وللكلمة الإلهية، وللروح، وللمحبّة الإلهية.

لذلك، العجب من أولئك الذين يستغربون كيف لا تزالون تبكون الحسين بعد كل هذه السنين، لأن هناك فرق بين أن يبكي الإنسان آلام غيره حتى لو كان قريباً، وصديقاً حميماً له، وبين أن يبكي آلام روح الروح، ونفس النفس، فهنا ليس شخصاً يتألم، بل الدين الذي هو محور حياتنا هو الذي يتألم. ولا شك أن ألم العاطفة، وبكاء العاطفة، يمكن أن يُنسى، ولكن ألم العقل يبقى محفوراً في النفس، وعندما يحب الإنسان بعقله، يصبح من الصعب تحمّل حالة المحبوب يتألم.

عندما يتهاوى صرح العباس المنيع على الأرض، ويحترق قلب العقيلة زينب عليه، ويتلوى الحسين ألما عليه، عندما تنطفئ شمعة القاسم، وشباب الأكبر، وبراءة الرضيع، حينما يبقى الإمام زين العابدين عُمراً يتألم ويبكي ، وحينما يغمى على الإمام الباقر وهو يسرد ما حدث في كربلاء، وحينما يتأوّه الإمام الصادق ويكرر قوله:” بأبي المستضعف الغريب“، وحينما يقول الإمام الرضا :”إن يوم الحسين أقرح جفوننا“، ويعقد سائر الأئمة مجالس العزاء، ويلحظ الألم الشديد على ملامحهم لمجرد ذكر اسم الإمام الحسين. فهل هذه الآلام في عُرف الزمان محتملة؟

لو كانت محتملة لنسيت، وانمحت مع ما محاه الزمان من خلال دهوره وأيامه، ولكن هذه الآلام هي أكبر من ذلك، لأنها متعلقة بمن نخاطبه في الزيارة الجامعة “أنتم نور الأخيار، وهداة الأبرار، وحجج الجبار، بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض، وبكم يُنَفِّسُ الهم، ويكشف الضر “.

وقد أبرز ذلك رسول الله حينما بكى عليه عند إخبار جبريل بقتل أمته له، ثم بذلك التعظيم لذلك الصغير، ثم بطلب شيئاً من تربته وإعطائها للسيدة أم سلمة وإخبارها بأنها ستصبح حمراء يوم مقتله، ثم حث أئمة أهل البيت الناس في روايات عديدة على إقامة شعائر الحسين وإبقائها حارة مشتعلة تدفئ النفوس بنور الإيمان.

فكلمة الإمام “لا تزورون..” تنظر إلى أن مثل هذه القضية الثقيلة على السموات والأرض من سفاهة العقل أن يجعلها الإنسان قشراً في حياته يكرره كل يوم، بل تبقى هذه الشعيرة مثل كل شعائر الإسلام قائمة على جذور ممتدة في أعماق وجدان الإنسان.

لذلك تأتي رواية الإمام :”لا تزورون خير من أن تزوروا من هذا الباب. فإذا لم يكن للإنسان ارتباطاً روحياً بالحسين بحيث تظهر صبغة الحسين بالحزن عليه، فقد تكون زيارته للإمام لها آثاراً سلبية تبعده عن الله تعالى أكثر مما لو لم يزره أصلاً.

ومن جهة أخرى، إن هذه الزيارة المراد منها تغير أحوال القلب، بحيث يصبح منتبهاً بعد أن كان لاهياً، يقظاً بعد أن كان غافلاً، وفاعلاً بعد أن كان منفعلاً، لأن كل القيمة هي لفاعلية القلب، وهذه الفاعلية لا تحصل إلا إذا كانت الزيارة لها واقعية، ويستحضر الإنسان نفسه بين يدي مولاه، لأننا إنما نحصل على التوفيق بمقدار عرفان حق الإمام وبقائنا بين يديه.

ثم لابد من أن تكون الزيارة حافظة لشأنية المزور، وتؤدي حقه وإلا عُدَّت إهانة، فالزيارة أداء حق، لذلك تكمل الرواية أن الذي يزور الإمام دون اعتبار لشأن الفاجعة في قتل الإمام، بينما يظهر الحزن في زيارته لقبور أحبائه، فهو ليس فقط لم يؤد حق الإمام بل قد تجاوز حدوده فيُعَدُّ فعله إهانة لمقام الامام لذا قال الصادق :”لا تزورون خير ...

ومن المعلوم استحباب الغسل والتطيب لزيارة كل المعصومين ما عدا الإمام الحسين الذي يستحب كما ذكر الإمام   تأتوه شُعثاً غُبراً ، وحتى إذا ورد استحباب الغسل فالاستحباب مقيد بماء الفرات، لتذكير النفس بحال الإمام الذي كان الفرات يجري أمامه وهو وآل بيته الكرام عطاشى .

      ذكر الإمام الحسين في النفس بحيث يخالط الوجدان ويكون من أساسيات وجود النفس مما تؤكد عليه الشريعة، بحيث أن الإمام الصادق يجعل ذكر الإمام الحسين يساوي عبادة الإمام طول الليل .

فقد روي عن الإمام الصادق كان عنده رجل من أصحابه، فلما أمسيا وأديا الفرائض ،، ثم أكلا الطعام.. نام ذلك الرجل، واشتغل الإمام بالعبادة من الصلاة والتضرع والبكاء والابتهال إلى الله تعالى إلى أن طلع الفجر ، فلم ينم الإمام في تلك الليلة. فلما أصبحا قال ذلك الرجل: والله آيست من النجاة ولا أرجوها أبدا .

   قال الإمام : فلم ذا ؟؟؟ قال : إذا كان حالك كذلك من كثرة العبادة و تبعيد لذيذ الكرى عن عينيك من خشية الله تعالى، والبكاء بكاء الثكلى مع أنك معصوم في أعلى درجة العصمة ، ولم يخلق الله تعالى الأفلاك وما فيها والدنيا والآخرة إلا لأجلكم أهل البيت، فكيف أرجو النجاة مع ما أنا عليه؟؟

قال الإمام : إنك عملت البارحة عملاً يساوي فضله فضل ما اشتغلت به من العبادة والبكاء إلى الفجر. فقال الرجل مستغرباً : وماذا فعلت البارحة ؟؟ قال : إنك لما نمت غلب عليك العطش في أثناء النوم، فقمت وأخذت الكوز وشربت الماء، فذكرت عطش الحسين وصليت عليه، ولعنت قاتله، ثم رجعت إلى مضجعك ونمت. وهذا أفضل الأعمال. ”

يركز الإمام على حال القلب، والذكر في النفس لأنه البذرة الصالحة التي تأتي وراءها كل الثمار الطيبة .

فينبغي الأخذ بالاعتبار نصب الأعين قول الإمام :”لا تزورون خير من أن تزوروا ونحن ندخل مجالس الإمام في استشعار الحزن في أنفسنا، فلا يكن جلوسنا واستماعنا ومشاركتنا شيئاً ألفناه في حياتنا، بل هو شيء تدفعنا إليه نفوسنا الحزينة التي صار اسم الحسين مخالطاً لدمها ولحمها .

نضع نصب أعيننا قول الإمام :” لا تزورون خير من أن تزوروا” ونحن نتعامل مع هذه القصائد المنتشرة في الأشرطة التي تستخدم الألحان أكثر من استخدامها للكلمات، فتعطي نوعاً من الطرب أكثر مما تعطي الحزن في النفس.

ثم بعد ذلك، إذا خرجنا بنتيجة أن الإنسان يتفاعل مع مجالس الذكر، ومجالس الحسين ويتعامل معها تعامل الحزين، ينبغي أن نعلم أن هذه غايةٌ وسطى، لأن الحسين لم يستشهد من أجل إثارة الحزن في أنفسنا كل عام، بل ليثير همة الإصلاح في النفوس وهو القائل: إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“، ليخرج الناس لطلب الإصلاح في بيوتهم وأهليهم ومدارسهم ووظائفهم ،

فلابد بعد هذه المظاهر، أن يحيا هذا الحزن المقدس في تلبية نداء الحسين ( لبيك يا حسين)، فالحسين يريد منا أن نصعد بأرواحنا بحيث نرى الوجود بعينه ونسمع بإذنه.

الأيام القادمة بحول الله، سيدور موضوع الحديث حول كلمة الإمام الحسين ( وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ ) وهو شطر من أبيات قالها ليل عاشوراء:

يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ         كم لك بالإشراقِ والأصيل

من صاحب وطالب قتيلِ       والدهرُ لا يقنع بالبديلِ

وإنما الأمرُ إلى الجليلِ             وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ

يعبر فيها الإمام عن تألم وتضجر من اختيار الناس طريق الباطل، رغم وضوح طريق الحق .. وفي كلمة أخرى يصف الناس فيها أنهم يسيرون على الحق ما درّت معايشهم، فإذا ضاقت السبل عليهم انسحبوا بسهولة من صراط الحق إلى سبل الباطل.

معركة اليوم قوية بين التطبيع مع العدو الاسرائيلي، والتميع الفكري والثقافي بحيث حتى تشوه وشذوذ الفطرة في مسألة العلاقة الزوجية صار يطرح على أنه يقع ضمن حرية الفرد.

أقول أنها معركة صعبة تتطلب الروح الحسينية القائمة على الإصلاح في الحياة. ومن وسائل الإصلاح، التسلح بجهاد الكلمة، وهذا الجهاد سماه السيد الإمام الخامنئي بجهاد التبيين، واعتبره فريضة على كل مسلم، بسبب شراسة هجمة الفساد والتي تتزعمها مؤسسات اقتصادية عالمية، وقد تعدت الخطوط الحمراء للدين فصارت تسعى إلى كسر حرمة القدس في قلوب المسلمين والتطبيع مع اليهود، وكذلك تعدت الخطوط الحمراء للفطرة وصار الكلام يدور حول أمور تشمئز منها النفوس.

والتبيين هو مقابل الغامض أو المخفي، أحياناً الناس يجهلون الحقيقة، وأحياناً تكون غامضة عليهم، وبروح الحرص على أن يكون الإنسان جندياً تحت لواء الإمام صاحب الزمان ويخاف أن يسيء التصرف فيُطرد من هذه الساحة الكريمة فهو يبذل أقصى جهده أن يبين للناس ما خفي عليهم، وفي نفس الوقت يكون مصداق لقول الإمام :”كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا، أو “بشروا ولا تنفروا “.

     وعندما نجدد ذكرى استشهاد أبي عبد الله فلكي نتابع معركة الحسين مع يزيد ونخوض تلك المعركة من مواقعنا التي نعيش عليها، وبأساليبنا التي نستطيع، فإذا  لم نكن وللاسف في أرض كربلاء عندما استنصرنا الحسين لنعيش معركة الأجسام والسيوف، فإننا اليوم موجودون وقادرون على أن نعيش معركة المبادئ والقيم، ونجدد الذكرى بكل وسيلة ممكنة بالاحتفالات التأبينية لنبقي أنفسنا في جو هذه المعركة لنُحشر يوم القيامة في موكب الحسين حيث تتقدمنا راية حمراء تشهد لنا بالجهاد في سبيل الله فياليتنا كنا معكم ابا عبد الله فنفوز فوزا عظيما

لبيك داعي الله إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري

                                                                               إنا لله وإنا إليه راجعون

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى