الكرامة الحسينية

العقيلة زينب عليها السلام .. الصبر الجميل (١) – ٢ صفر ١٤٤٤

العقيلة زينب عليها السلام .. الصبر الجميل (١) – ٢ صفر ١٤٤٤

عناصر الحديث

  الصبر من المفردات التي اشتبه الناس في فهمها،

  معنى الصبر في النص الديني

  صبر العقيلة زينب يعني أنها جعلت كل الوجود مفعول به وهي الفاعل ،

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))

السلام على القلب الصبور، واللسان الشكور ، السلام على السيدة زينب ورحمة الله وبركاته

ارتبط اسم العقيلة زينب عليها السلام بالصبر، وغالباً يُذَكَّر من يكون في أجواء البلاء بـ (صبر زينب)، أيا كان نوع هذا البلاء.. لأنها قد أحيطت بألوان من البلاء.. فخرجت من كربلاء جوهرة متألّقة تَمَثَّل فيها إيمان علي، وصلابة فاطمة، وحلم الحسن، وثبات الحسين، عليهم الصلاة والسلام.

وارتباط الصبر في تمكين الإنسان في حياته واضح في الروايات في جعل الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، أو من خلال تصوير آخر مُعبِّر في كونه حبل للاستعانة به إلى مرضات الله تعالى، بالإضافة إلى الصلاة في المهمات من الأمور.

من هنا، فالصبر يعتبر من المفردات التي اشتبه الناس في فهمها، حينما صاروا يفهمون معنى مفردة (اصبر ) بمعني (استسلم، اسكت ولا تقاوم، ولا تفكر في تغيير أحوالك).

لذلك كثيراً ما يحصل الخلط بين الصبر الذي يعني الاستعداد النفسي للمقاومة، مع الاستعداد النفسي للهزيمة، الذي لا يمكن أن يطلق عليه مصطلح ( الصبر)، بل هو قتل للنفس أكثر، فهناك من يردد أنه قد صبر، ولكن في المقابل ازدادت حياته سوءً، ولم يجد ثمرة الصبر المرجوة.. كما حينما تصبر المرأة على أذى زوجها فيطغى ويتكبر، أو يصبر الزوج ويسكت على تفاهة زوجته فيزيد جبروتها.

..

ولا شك أن هذا التصرف لا يسمى صبراً، فهناك فرق بين الصبر الذي يصنع إنساناً، وذاك السلوك الذي يصنع طاغوتاً، لا شك أن الأمم التي سكتت عن العدوان الإسرائيلي هي صنعت إسرائيل، كحال من يُصاب بمرض ولا يبادر للعلاج، بل يستسلم للمرض بعنوان أنه صابر عليه، سيكون سبباً في انتشار المرض .

والزوجة أو الزوج التي تسكت عن أذى زوجها بعنوان أنها تصبر، فهي تصنع منه طاغوتاً وهذا فيه أذى لنفسها أولاً، ولدينها ثانياً ولمجتمعها ثالثاً.

إن الخلل في فهم الصبر بين مفهوم الدين والذي يعتبره بمنزلة الرأس من الجسد، وبين ما يتخيله أكثر الناس، أن الصبر في الشريعة في أبسط تعريفاته هو حبس النفس عن الجزع والضعف، أي القيام بحركة نفسية بحيث يجب أن لا تضعف النفس، سواء كان هذا الجزع أمام مصيبة حدثت، أو موقف يحتاج ثبات.

فالدين يُعرِّف الصبر بمعنى أن يكون الإنسان حابساً لنفسه عن الجزع، ليكون فاعلاً، بينما ما يفهمه الناس هو حبس النفس عن الفعل أي يكون حابساً لحركته، فلا يكون فاعلاً،  بل مفعول به، وهذان مفهومان متقابلان متعاكسان .

لأن فكرة الدين من خلال كل تشريعاته أنه يريد صياغة نفساً قويةً تستثمر كل ما سُخِّرَ لها لتواصل الدرب.. فلا يمكن أن يأمر بالصبر، ويعتبره بمنزلة الرأس من الجسد أو حبل يستعين به الإنسان على أحواله، في الوقت الذي سيؤدي به إلى أن يعيش بؤساً أكثر.

إن الإسلام قد وضع الشريعة لتنظيم العلاقات، وحتى يتحرك الإنسان إلى الله، لا حتى يقيد حركة الآخرين، فحينما نقول أننا نصبر على الأشخاص المؤذين لا يعني ذلك أننا نقيد حركتنا من أجلهم، لأن الله تعالى لم يرخص لأحد أن يقيد حركته من أجل أي جهة.

والآية الكريمة في قوله تعالى” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأرض ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أرض اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا تنطبق على أحوال الناس العادية، بمعنى أنه مطلوب أن يكون في حركة دائمة نحو الله، ولعل كثيراً من الناس يفهم المسائل بشكل غير دقيق بحيث صارت لها آثاراً سلبية عليه .

أحياناً تتخيل المرأة أنها تقوم بفعل طيب وهو الصبر، ولكنها في الحقيقة تطلب راحة نفسها بأن تكف أذى الطرف الآخر عنها. ولو التفتت إلى ماذا يريد الدين منها لما فعلت ذلك، ( والكلام هنا ليس في انحصار الموقف في خيارين فقط إما السكوت أو المواجهة .. بل لا شك دائما بوجود حل ثالث هو دراسة الأمر، ووضع خطة قصيرة أو طويلة الأمد من المتوقع تحصيل نتيجة طيبة بعد فترة ).

من الطبيعي حينما يكون هناك باب مغلق أمام الإنسان يفصله عن هدفه، فلن يقف في مكانه ينتظر من يأتي ليفتحه، بل يبذل كل أفكاره في محاولات الفتح، وهذه الخطط والأفكار في رفع الحواجز وفتح الأبواب هي ما يسمى بالصبر، ومن هنا، فالصبر ليس سكوتاً كما يفهم البعض، بل هو تخطيط لتعديل الحال وتحسينه.

.. اذن يجب أن يتحدد عند الإنسان متى يكون الصبر على الطرف الآخر حلماً، وسداداً، وعقلاً، ومتى يكون ضعفاً؟ كما أن السياسي المحنك يعرف متى يكون الصلح مع العدو مطلوب ويصب في تحقيق الهدف، ومتى يكون خطأً وفيه تضعيف لتلك الأهداف.

فالصبر المطلوب هو الذي يصنع إنساناً، يستطيع أن يواجه الموقف، وأن يكون فاعلاً، لا مفعولاً ، فيواجه الطاغي ( مجرماً كان أو زوجاً أو زوجةً أو مديراً ) ويتعامل بالعقل الذي يقلب طغيان هذا الطاغي، ويحصره في زاوية، إما يعينه على نفسه ويظهر انسانيته ويحوله إلى إنسان ، أو أنه يُظهر هشاشته أمام الناس.

ومن هنا، فمن غير السليم الشكوى من حياة زوجية استمرت سنين طويلة، فأين كان كل من الطرفين طيلة هذه الفترة من وضع محاولات العلاج الهادئة والخطط طويلة الأمد لتؤتي ثمارها في حياة طيبة بعد فترة .   نعم، لا شك أن هناك استثناءات لا يفيد معها العلاج لكنها قليلة .

ويُمكن تشبيه الصبر بشخص يريد تسلّق جبل، فهو أثناء تسلّقه للوصول إلى القمم العالية سوف يواجه موانع ومصاعب، قسم منها يتعلّق به كمتسلِّق مثل الضعف والكسل أو عدم وجود وسائل التسلق، والقسم الآخر يرجع إلى العوامل الخارجيّة، مثل وجود صخور صعبة ، فيعمل على إزالة هذه الموانع .

والإنسان في حياته .. أحياناً يضعف فيحتاج أمور مساعدة تعينه على مواصلة الدرب ..وأحياناً تكون أمامه عوائق تمنعه من الاستمرار يجب أن يرفع الإنسان قدمه ليعبر تلك الحواجز، وإلا سيقف في مكانه ولن يتقدم أبداً، وهذا يقتضي تفعيل العقل في مواجهة الموقف الصعب، لينظر إلى نفسه كما لو يراها في مرآة.

نقل عن أحد الصالحين: لقد تعلّمتُ درساً في الاستقامة من حشرة، فقد كنت يوماً جالساً إلى جانب عمود، فرأيت حشرة قد تسلّقت العمود كي تجلس إلى جانب السراج المنصوب عليه، فبقيت جالساً أراقب ما تفعله تلك الحشرة، الى ان طلع الفجر وقمت بإحصاء محاولاتها لتسلّق العمود، فكانت سبعمائة محاولة كلّها باءت بالفشل الذريع، حيث كانت تسقط على الأرض في كلّ محاولة لأنّ سطح العمود الأملس لم يساعدها على التسلّق.
ويتابع قائلاً: وحيث أصابتني الدهشة من الإرادة العجيبة لهذه الحشرة الصغيرة، فقد قمت من مكاني لأداء الصلاة، وبعد فراغي من الصلاة وجدتها قد وصلت مقصودها، وما ذلك إلّا لِما تحلَّت به من ثباتٍ وصبرٍ ومثابرةٍ، فوصلت إلى مقصودها في النهاية.

كل موقف صعب يثير النفس هو ترمومتر يقيس الطمأنينة الروحية ، ابتداء من حدث بسيط، ككيفية التصرف أثناء الوقوف في طابور عيادة الطبيب الطويل، واذا بأحدهم يتجاوز الكل ليدخل، إلى موقف رفع تظلم في الوظيفة، إلى إهانة في وسط جماعة، إلى مرض يصاب به ، إلى فقد عزيز، إلى خسارة كبيرة .. إلى حياة ضمن الأمن والخوف ،إلى أن يجتمع كل ذلك في عمر واحد…  كان عمر عقيلة الهاشميين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين  .

ولذا ورد في الروايات (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) ..وهي صورة معبرة تعني ان الصبر هو أمر يحتاجه الإنسان دائما ..في كل وقت .. وحينما يقول الله تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) ..فهو يقول لنا أنه طريق صعب تحتاج فيه إلى الصبر .. وهذه الحاجة شديدة لدرجة أنها ملازمة للإيمان ومرآة له لا تنفصل عنه.

وحينما نقول أن العقيلة زينب هي جبل الصبر، فلأنها حققت مفهوم الصبر الحقيقي على الواقع، لم تتحمل فقط كما يتحمل أي أحد مصيبة تمر عليه، بل حولت هذه المصائب لصالحها ضد الفاعل، هي الأسيرة التي صارت آسرة ، أسيرة قلبت المعادلة فصارت أميرة تماماً كما قال الشاعر : ظنوا بأن قتل الحسين يزيدهم   وانما قتل الحسين يزيدا

زينب   جعلت كل الوجود مفعول به وهي الفاعل، هي الطرف الإيجابي التي جعلت يزيد متحيراً في أمره، وكانت أيضاً كذلك بعد ما رجعت المدينة.

روعة العقيلة زينب   ظهرت لنا في أجواء البلاء، ولو لم تكن هذه الأجواء كنا سنعرف زينب بنت امير المؤمنين   التقية العالمة الصالحة فقط لكن من خلال صبرها في رحلة كربلاء الطويلة عرفناها شموخ الصبر .. وجبل العطاء ..والإيمان..

لذا من زينب   نعرف كيف أن ” إن مع العسر يسرا ” كيف أن الموقف الصعب هو الذي يصنع الإنسان القوي، على حسب درجات صعوبته، كما يقول أمير المؤمنين ( صبرت وفي الحلق شجا وفي العين قذى) ، أي قد واصلت البحث عن رضا الله تعالى في القيام بالموقف الصحيح لمواجهة ذلك الواقع رغم كل تلك الآلام .

كل موقف صعب في الحقيقة هو مرآة يرينا الوجه الآخر المخفي من النفس، وادعاء الإيمان فيه، ونعرف بمواجهتنا له قوتنا الداخلية ومقدار سكوننا النفسي،

ويمكن القول أن تسمية السيدة زينب   بأنها جبل الصبر ، تفتقر إلى الدقة في التعبير ، لسبب بسيط أن الصبر في الروايات بمنزلة الراس من الجسد ، أي لا يتقوم الإيمان ألا بالصبر ، ولكن من تقول : فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، هي زينب   التي تنسب نفسها ألى الوحي ، هي فوق أن تقاس بالصبر، بل تقاس بأرقى درجات الإيمان وهو الرضا .. فالعقيلة زينب   هي ملكة الرضا وليست جبل الصبر فقط.

وعلى كل حال .. فإن صبر العقيلة زينب هو الصبر العاقل الذي تلازم مع الإيمان، وكلما أُرجع البصر إلى حياة العقيلة زينب بكل تفاصيلها سوف يسئل (هل ترى من فطور) ، لا والله لن ترى فطوراً وثغراتٍ في روح السيدة زينب ،

العقيلة زينب هي التي حينما دخلت الكوفة هزتها ، حينما وقفت أمام أهل الكوفة يقول الراوي أومأت بيديها أن اسكتوا ، فهدأت الأجراس وسكنت الأنفاس ثم نطقت وكأنها تفرغ عن قلب أبيها أمير المؤمنين ،

تحدثت العقيلة أمام أهل الكوفة، ورفضت خداعهم ودموعهم ومجاملاتهم وزيفهم، لما سمعت صوت بكائهم قالت:” يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر والنفاق، فلا رأقت الدمعة ولا هدأت الزفرة إنما مثلكم مثل التي ( وهذا تفعيل للقرآن الكريم في حياة الناس ) مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم . أتبكون؟ وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا،

ثم تلت عليهم عزاء سيد الشهداء لتبين لهم عظم الجريمة التي شاركوا بها “ وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة؟ وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنتكم؟؟ ألا ساء ما تزرون،” أفعجبتم ان امطرت السماء دما .. ..

كان هذا هو الوجه القوي الصلب للعقيلة زينب ،الذي مهما ارجع البصر ليرى هل من فطور ، سوف ينقلب الينا البصر خاسئا وهو حسير ، لا ثغرات ولا ضعف في روح زينب .

اسم (زينب) في اللغة يعني النبتة الطيبة ذات العبير الطيب، وبالفعل يناسب اسم السيدة العقيلة زينب ، هذه الشخصية ذات العبير الطاهر، ولم لا ؟ وهي التي استنشقت عبير الرسالة وعبير الإمامة، ونشأت في حجر جدها محمد ، وما ظننا بمن كان منبته تربية حجر علي وفاطمة وجد كرسول الله ، هي بنت من، هي أخت من، هي من ؟ جدها من؟ أمها من ؟

السيدة زينب الكبرى في أدوار حياتها وسيرتها الذاتيّة تخبرنا عن أصالة سماويّة، وشجرة نبويّة، ودوحة هاشميّة، وترجمة قرآنيّة، أصلها ثابت وفرعها في السماء

لذلك دخلت كربلاء فصنعت لنا سيرة حياة ناصعة يستقي منها الأجيال دستور حياة، ومنهج ثبات ..

فالسلام على السيدة زينب في العالمين

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى