وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ – بين سعي السيدة هاجر وسعي السيدة زينب عليهما السلام – ١٢ محرم
عناصر الحديث
-
هجرة الحسين إلى كربلاء هي امتداد لهجرة نبي الله ابراهيم إلى مكة ومقاربة لها في الظروف
-
منْ ذُرِّيَّتِي
-
ربَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
-
فاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
-
بين سعي السيدة هاجر وسعي السيدة زينب عليهما السلام
سلام على زينب ما بقي الليل والنهار ورحمة الله وبركاته، ولا جعله الله اخر العهد منا لزيارتها
قال الله تعالى : “رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْـِٔدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىٓ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ “
تتحدث الآية الكريمة عن هجرة نبي الله إبراهيم العجيبة بزوجته السيدة هاجر والرضيع اسماعيل، تركهم في صحراء مكة حيث لا إنس، ولا طير ولا زرع ولا ماء، بل صحراء جرداء، وجبال شاهقة، والشمس بوهجها تكاد تخطف الأبصار .. ثم تركهم،
هذا التعامل أو التصرف لمن لا يعرف سيرة الأنبياء يجده غريباً جداً، لا يمكن أن يكون مقبولا بمنطق العقل، فكيف لرجل أن يترك زوجته وطفله الرضيع في مثل هذا الظرف العصيب، ولكن ابراهيم الذي أسلم وجهه لله تعالى، علم أن هذا الامر الإلهي يحمل في طياته حكمة عظيمة هي إقامة الدين في هذه المنطقة .
وهناك صورة وحركة مقاربة واضحة لحركة نبي الله ابراهيم إلى مكة تعجب لها الناس أيضاً، وحاول بعض الوجهاء أن يمنعوها لأنها تخالف منطقهم، هي حركة حفيده الإمام الحسين بأهل بيته الى كربلاء،
فكما هاجر إبراهيم والسيدة هاجر وطفله الرضيع إلى مكة، جاء الحسين والسيدة زينب وأهل بيته إلى كربلاء. وكما عبر ابراهيم بهدف الهجرة بأنه ( ليقيموا الصلاة) كذلك عبر الإمام الحسين بعدة تعبيرات مشابهة مثل:” إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“. فهو تاريخ ممتد متمثل بقوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض).
وكما كان دعاء ابراهيم (فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم)، لا أن الناس تسعى إليهم فقط، بل أن قلوب الناس معلَّقةً بهم، فقد تحقق ذلك في الهجرة إلى كربلاء، في قول النبي ﷺ: (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدأ ).
وهناك جانب مهم أيضاً في هذه المقاربة، فكما أن الشريعة عظّمت سعي السيدة هاجر واعتبرته من الشعائر التي يؤديها الحجاج على مر الزمان، فكذلك تميز سعي السيدة زينب بحيث أعطت لمعنى السعي صورته وقيمته الواقعية، فكان لسعي السيدة زينب في كربلاء دور في أداء هذه المهمة الربانية وهي إقامة الصلاة والدين،
وهي القائلة للامام زين العابدين ” لا يجزعنك ما ترى فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ﷺ إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام“.
فهي (ذرية بعضها من بعض)، وهي (بيوت أذن الله أن ترفع )، لأنهم من يرفع شأن دين الله بإقامة الصلاة، وابراهيم بناء على أمر الله تعالى أسكن ( من ذريته) في صحراء ليقيموا الصلاة والدين في هذه المنطقة،
ومن الملاحظ أن الجامع المشترك في كل زيارات الأئمة الأطهار هي جملة (أشهد أنك قد أقمت الصلاة )، كل الأئمة الأطهار قد أقاموا الصلاة، القرآن الكريم كله مليء بهذه العبارة لا فقط أداء الصلاة ” إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” “قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة “.
معنى الإقامة هو ما في قوله تعالى “فوجد فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه ” أي أن الجدار كان موجوداَ، ولكنه ذو أساس ضعيف، ويبدو فيه التخلخل، لذا قام الخضر بتثبيت دعائمه وتقويته فأقامه .. فإقامة الصلاة تعني أن كل أجزاء الصلاة قد تكون موجودة، ولكنها كالبنيان الضعيف الذي يريد أن ينقض، تحتاج إلى روح تقيمها، ..فالمشكلة ليست في عدم الصلاة كحركات، لأن الكل يصلي، ولكن المسألة من الجهة التي يقول القرآن فيها ( ويل للمصلين) ، وكذلك حينما يشكر من أقام الصلاة .
ما هي كيفية إقامة الصلاة؟ الصلاة عمود نوري كما يقول علماء الأخلاق، تتكئ عليه الصفات والملكات، ـوالصفات عمود نوري يتكئ عليه السلوك والنهج، بل الملبس والمطعم، ولذا جاء في وصف المتقين (ملبسهم الاقتصاد) يقصد أن الظاهر يؤثر في الباطن، فاللبس يؤثر في التقوى، والتقوى حينما تصبح ملكة في القلب، تسند وجود الصلاة كعمود في روح الإنسان،
والأئمة الأطهار علمونا كيفية إقامة الصلاة، وقد لخصها العلماء في أربعة أسفار روحية :
الأول” سفر من الخلق إلى الحق:
أي من عالم الطبيعة، حيث يسافر الإنسان بمشاهدة أسرار العالم إلى أن يعرف الله تعالى، يقول السيد الإمام في شرح مقطع “اللهم إني أسألك من نورك بأنوره ” : “اعلم أن أجلّ ما يرد (أي يرجع ويعود عليه بالفائدة )على السالك بقدم المعرفة إلى الله من عالم الملكوت هو انشراح صدره لأرواح المعاني وسر الحقائق “، ثم يقول” لأن للقرآن تأويل، ومنازل، ومراحل ..أي نتيجة السفر الأول هو انشراح صدر السالك بعلم هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء، هذا النور هو نور المعرفة لله تعالى
ثم يذكر الحكماء السفر الثاني: بالحق في الحق:
أي من الله تعالى إلى الله تعالى، فهو سفر في الأسماء الحسنى والصفات الإلهية يتعرف فيه على أسماء الله وصفاته، وهذه السياحة تتمثل في قراءة دعاء السحر ، أو دعاء الجوشن الكبير بتسبيح الله بأسمائه الحسنى .
ثم السفر الثالث من الحق إلى الخلق بالحق:
وهو سفر يمثل رجوع الإنسان إلى عالم الطبيعة، بعد تلك السياحة الملكوتية، فيعيش بين الناس، ولكن رجوع في حال مختلف فيرجع وعليه آثار من ذاك العالم الملكوتي وسيماء العالم الأعلى؟
ثم السفر الرابع بالحق في الخلق:
يتحرك فيه الإنسان بين الناس، ولكن ينظر إليهم بعين الحق ويحاول تعريفهم بما هو فوق. فيرجعه الله تعالى إلى عالم الخلق رجوعاً إما تشريعياً أي يحمل رسالة إلى الناس فيكون رسولاً، أو تكوينيا فيكون شخصاَ إلهياَ.
ويمثل لهذه الاسفار برحلة في بستان، فإذا اقترب المسافر إلى الله عز وجل من قمة الجبل –جبل معرفة الله- ويشم رائحة البستان- بستان معرفة الله- المتربع على القمة، فيمكن ان يقول:( كأني وصلت)، فإذا وصل إلى القمة، كان له السفر الأول،
فإذا دخل البستان وتنقل بين أشجاره وثماره، فهنا قد تم له السفر الثاني،
وعندما يقطف شيئاً منها، ويرجع معطراَ برائحتها إلى بلده وأهله، فهذا سفره الثالث،
وإذا استطاع حينما ينزل إلى أسفل الجبل أن يسعى إلى زرعها وغرسها لينقل من الصورة العالية صورة منها في الأسفل، وليقول أن الصورة النازلة لا تقاس بما هو فوق هنا يكون له السفر الرابع .
هذه المراحل خطاها أئمتنا الأطهار بحياتهم العملية، كل حسب ظروفه، وكلهم امتداد لحركة ابراهيم جدهم الذي دعا الله تعالى بأن ذريته هم الذين سوف يقيمون الدين ، وقد استجاب له ربه جل علا، وهو ما أكدت عليه اخر آيات سورة الحج، بقوله تعالى( ملة ابيكم ابراهيم )،
كذلك يظهر ذلك في قوله ابراهيم :”( رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى“، فلم يقل زوجتي وابني او عائلتي، بل (من ذريتي) أي إشارة إليهم هم الأثنين بالاضافة إلى المعصومين من السلالة الطاهرة من هؤلاء، لذا نخاطب الإمام في الزيارة (أشهد أنك قد أقمت الصلاة).
وكما سأل إبراهيم ربه أن يجعل ذريته أئمة للناس سأله أيضاً أن يوفق الناس للاقتداء بهم في قوله تعالى (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، أي أن القلوب تودهم وهذا يتوافق مع موقعيتهم كأئمة هداية بين الناس، كما يقول القرآن الكريم ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)
وإلا فما الداعي للطرح مودة جماعة معينة ؟ خصوصا وأن القرآن لا يجيز مودة أهل المعاصي ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)، لا شك ان المودة هنا مرتبطة بمن تحققت فيهم العصمة،
وهو نفس السبب الذي جعل تشريع الصلاة على محمد وآل محمد في التشهد، لأن معنى الصلاة هو طلب الرحمة، والإنسان لا يطلب الرحمة إلا لمن يحبه ويتعلق به، ومنها يتضح بأن هوي الأفئدة يصل مداه في حال أئمة الهدى، بل يصل إلى حد الوجوب .
فالحركة هي الحركة، بين إبراهيم والحسين إلى الائمة ، إقامة الصلاة في ذرية ابراهيم ، وسعي السيدة زينب هو امتداد لسعي السيدة هاجر كجزء من وظيفة ومنظومة الهية عظيمة هي أٌئمة الدين.
تألقت السيدة زينب كوليّ إلهيّ في المسير إلی كربلاء مع الإمام الحسين ، بشكل لا يمكن أن نجد له نظيراً علی مرّ التاريخ. فاستطاعت أن تُحدث نقلة في الوعي والفكر الديني عند المجتمع في الأحداث المتتابعة خلال فترة الأسر، في الكوفة والشام وإلی نهاية هذه الأحداث وابتداء مرحلة جديدة للحركة الإسلامية وتقدم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي.
الفرق بين تحمل المسئولية وبين حمل الرسالة:
هناك مسألتان قد يشتبه فيها البعض كثيراً، حينما يتخيلون أن السيدة زينب تحملت المسئولية بعد شهادة الإمام الحسين ، بحيث يقال أن الإمام الحسين قام بالتضحية الكبرى في كربلاء ثم العقيلة زينب تحملت آثار فاجعة كربلاء، فتحملت رعاية الأيتام والثكالى، وهذا التعبير ليس دقيقاً ، ….بل في الحقيقة وبالدقة هي تحملت الرسالة ، وفرق بينهما ان تحمل المسئولية مفتوح للجميع كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته لكن الرسالة لا يتحملها اي احد، “الله اعلم حيث يجعل رسالته ). رسالة لها رافد ومنبع وجذر الهي.
وقد حدد القرآن الكريم للمرأة الصالحة مكانة لا تقل عن مكانة الأنبياء فحين ذكر سلسلة طويلة من الأنبياء تعدّ ب خمسة عشر نبياً، يذكر السيدة مريم وألحقها بالأنبياء فقال عز وجل (والتي أحصنت فرجها “.
وضرب المثل للذين أمنوا هو عبارة أخرى عن الاصطفاء، فحينما يقول الله تعالى ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) أو قوله تعالى( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) ،
فلا يوجد دليلٌ قرآنيٌ يمنع أن تلحق السيدة زينب بالرسالة .. فزينب كانت بهذا المعنى تحمل رسالة الهية ،
بدليل أولاً : تصريح الإمام الحسين قبل السفر الى كربلاء في تقسيم مشيئة الله في انه تعالى شاء ان يراه قتيلا وشاء الله ان يراهن سبايا، فهي مشيئتان والإرادة الإلهية حينما ارادت أن يؤدي الإمام الحسين رسالته بالتضحية فهي إرادة إلهية أيضاً بأن تؤدي السيدة زينب رسالتها في رحلة السبي .
ثانيا : لو قلنا أنها قد اضطرت لتحمل المسئولية وهذا الدور الثقيل، فالمسئول عادة حينما يحمل ثقلاً متى ما وجد فرصة لالقائه عن كاهله فسوف يبادر لذلك، بينما كانت السيدة زينب تتحدث بلسان الوحي (فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا) فهي تتحدث عن مستقبل ما جرى في كربلاء وكأنها صاحبة القضية بالاصالة، وليس بالتبع .
السيدة زينب هي ابلغ من وضح حقيقة كربلاء، لا أنها تنقل تفاصيل الدور والأحداث التي وقعت في كربلاء، لأنها أمور ينقلها المؤرخون، لكن المؤرخين لا يمكن لهم أن يبلغوها بحيث يبينون للناس أهدافها، ونتائجها، والواقع الوخيم الذي وصلت إليه الأمة، زينب لم تبلغ بكلامها ذلك فقط، بل بشخصها، وهيبتها، بعملها، ووقارها، وقدرتها على العمل المناسب في الوقت المناسب. ثم إدارتها وتدبيرها وفطنتها، كل ذلك يدل على أنها صاحبة رسالة، ولم تتحمل فقط تبعات تضحية الإمام ، بل أن تحمل المسئولية ليست إلا قشراَ لهذه الرسالة.
ثالثا : إن شرط إيصال الرسالة والإبلاغ كما ينص القرآن الكريم هو (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله وكفى بالله حسيبا)، وهذا أبرز ما ظهر من العقيلة زينب أي عدم الخوف من غير الله تعالى بالشكل الذي هز وجود ابن زياد ويزيد .
من هنا، فالسيدة زينب هي حاملة لرسالة، وليست فقط قد تحملت عبء كربلاء ونتائج الفاجعة من تضحية الإمام الحسين .
هذه العقيلة زينب التي كانت من نفس الحسين وصار لها سعياً في كربلاء، أتمت به سعي السيدة هاجر في مكة، بحيث أعطته الثمرة المرجوة من عبادة السعي في واقع الحياة، أرسلهاالإمام الحسين لتكون له صوتاً، وللدين راية،
زينب.. أربع أحرف من نور ، وكمٌّ هائل من الفضائل والقيم والمعنويات
زينت سماء كربلاء …
هذه زينب يوم كانت على بابها تحط الرحالُ
امست اليوم يا لقومي اسيرة وعليها تتصدق الانذالُ
إنا لله وإنا إليه راجعون
زر الذهاب إلى الأعلى