الكرامة الحسينية
معاني وأجواء العبارة – ١ محرم
١محرم – وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ – معاني وأجواء العبارة
عناصر الحديث :
▪️(الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم) هي قاعدة سارية في كل الأجيال إلا ما ندر.
▪️تصوير الحق والباطل في الآية (أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌۢ بِقَدَرِهَا).
▪️مداخل الباطل إلى النفس: نفسية، اجتماعية، روحية وفكرية.
▪️أسباب الشبهات النفسية والفكرية هي عدم فهم معنى الحياة، وعدم معرفة من هو الله الرب.
▪️أولى مراحل جهاد التبيين الذي قام به الأئمة هي الدعوة لليقظة
▪️خطورة التغير البطيء في حياة الإنسان نحو الباطل.
▪️كربلاء هي صورة للاخرة التي يريد الإمام الحسين أن نستيقظ بأحداثها على مفهوم الهجرة إلى الله
السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله، السلام عليك وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك مني سلام الله ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم، السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين ـصحاب الحسين وعلى “.
عن الرضا :” كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول:” هو اليوم الذي قتل فيه الحسين “.
من نعم الله علينا وجود الإمام الحسين في حياتنا، هي نعمة عظيمة مع فاجعة المصيبة، لأنه الشجرة الإلهية المثمرة التي تؤتي أكلها كل حين هداية بإذن ربها، فقصة الحسين في هذا العالم هي البرنامج الإلهي العالمي المرسل للبشرية التي تبحث عن جواب لسؤال كل إنسان “كيف أكون أفضل؟”،
والجواب: حتى ينطلق الإنسان إلى الأفضل، ينبغي أن يكون حسيني الهوى، والقلب والقالب. فيستلهم من كلمات الإمام الحسين مخطط لمسيرة يلتحق بها ليكون في رفقتهم على الصراط المستقيم.
اخترت أن تكون أحاديث العشرة الأولى من المحرم تحت عنوان ( وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ) وهذه الجملة هي شطر من أبيات قالها الإمام الحسين ليلة عاشوراء. بعد كل الخطب والمواعظ التي قدمها الإمام الحسين ، منذ خروجه من مكة، وإلى نزول الموكب الشريف على أرض كربلاء، بل وحتى إلى ليلة العاشر من المحرم، بحيث اتضح الموقف لكل من طرفي المواجهة، موكب الإمام الحسين وجيش يزيد، وصار كل فرد من هذه الأطراف يعلم سبب وجوده على هذه الأرض، وأنه جاء إما ليقاتل ابن بنت رسول الله ، أو يقاتل معه ويفديه بنفسه،
يروي المجلسي: قال علي بن الحسين :”إني جالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :
يا دهر أف لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعلمت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل“.
هذه الأبيات تعبر عن تألّم وتضجّر الإمام من اختيار الناس طريق الباطل رغم وضوح طريق الحق .. وفي كلمة أخرى يصف الناس فيها أنهم يسيرون على الحق ما درّت معايشهم فإذا ضاقت السبل عليهم انسحبوا بسهولة من صراط الحق إلى سبل الباطل.
ولو تأملنا في عجلة التاريخ لرأينا هذه القاعدة سارية في كل الأجيال، وأن هذا هو حال أكثر الناس في كل عصر، فإن عمر بن سعد لم يكن حالةً شاذة من الناس، حينما قال:
فواللّه ما أدري وإنــــــــي لـحائرٌ *** أفكّرُ في أمــــري على خطرينِ
أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي *** أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ
حسينُ ابن عمي والحوادثُ جمّةٌ *** لعمري ولـي في الرّيِّ قرةُ عينِ
يقولونَ إن اللّه خـــــــــــالقُ جنةٍ *** ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
فإن صدقوا فيما يـقولـــون إنني *** أتوبُ إلى الرحمــنِ من ســـنتينِ
(وملك الري قرة عيني … أتوب الى الله في سنتين). هو نفس منطق أخوة يوسف : “اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ” تذكر الرواية:” كل امرئٍ أضمر ما أظهر فرعون“، لأن الله تعالى قد ألهم النفس “فجورها وتقواها“، ويقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر:” من منا قد أُعطي ملك هارون ثم لم يسع لقتل الإمام الكاظم؟”. من هنا قال النبي ﷺ:” أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك“.
الفرق أن صورة الناس المتخاذلين عن الحق بدت واضحة في عصر الإمام الحسين لأن من تركوه أدى ذلك إلى شهادته وأهل بيته بتلك الصورة المفجعة. كما أن صورة إبليس انكشفت بعد ستة آلاف سنة من العبادة، وكان قبل ذلك من الذاكرين الراكعين الساجدين العاكفين مع الملائكة على عبادة الله تعالى، لكن أكثر الناس في أكثر الأجيال لم يكن لهم هذا المحك والاختبار الصعب.
(وكلّ حيٍّ سالكٌ سبيل)، جملة تعبر عن اختيار الإنسان لطريقه، وعن إرادة الإنسان القوية أو الضعيفة في هذه المسيرة، يقظته أو نومه أثناء اختيار الطريق. والحق عادة واضح، والعقل الذي هو أداة الاختيار موجود، الهمة والعزيمة التي هي أداة العمل والانتاج موجودة. هذه هي الأمور الاساسية لفلاح الإنسان.. العقل، الحق، العزيمة، ولكن كثيراً ما تتخلف النتيجة بسبب خيار الإنسان، رغم أن رحمة الله كبيرة، وقد فتح طريقاً واسعاً للهداية للإنسان، ورد عن الإمام زين العابدين أنه قال:” ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله“ .
إلاّ أن النفس الإنسانية تحمل أخطار طريقها في ذاتها، بحيث تضعف أمام المؤثرات التي تغطي هذه الأمور الأساسية الواضحة .. وآية سورة ابراهيم تصور وجود الحق والباطل في حياتنا، فيقول الله عز وجل: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً )، تصوير أن الحق واحد أبيض ناصع، ولكن حينما يختلط بأفهام الناس، وبأجواء البيئة التي تتمثل في العادات والتقاليد، والثقافة الموجودة، وبمنهج التربية السائد، والإعلام المضل، فمن الطبيعي أن يظهر بصورة أخرى بإضافات ورتوش، فالأبيض يصبح رمادياً إذا ما اختلط بالأسود،
كل هذه الأمور تجعل من الحق الواضح غير واضح، حتى الظلم يمكن أن يستهلك الحق ويلوّنه ويجعله إلى صفه،
ثم تكمل الآية الكريمة( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ).
وهذا، بالإضافة إلى إبليس الذي أقسم “لأقعدن لهم صراطك المستقيم“، ولكن من الأفضل ترك إبليس خارج المعادلة، لأنه لا يمكنه اختراق الخطوط الحمراء للإنسان، إلا إذا سمح الإنسان له بذلك، وفتح باب قلبه، فعادة ما يقوم الشيطان بالوسوسة عن طريق جاسوس في النفس يفتح له الطرق المغلقة وهي النفس الأمارة بالسوء، فالنفس هي أساس فلاح الإنسان وفساده، (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، والنفس الإنسانية بالإمكان أن تصبح أطهر من الملائكة من جهة، وأخبث من إبليس من جهة ثانية.
لذلك كم هي تسمية دقيقة وفي محلها حينما سمى السيد الإمام الخميني أمريكا بأنها الشيطان الأكبر، مجموعة نفوس خبيثة منحرفة تتلمذت عند إبليس بحيث تغلبت على أستاذها فأصبحت أكبر منه، وإلا فمن يتمكن أن يتلاعب بعقول الناس، ويصنع إعلاماً يزخرف الحقيقة، ويسيطر على خوفهم وفرحهم، هو شيطان أكبر بلا شك.
ولو أردنا أن نعرف مداخل الباطل إلى النفس، كيف تتقبل النفس الباطل؟ وهذا الخلط الذي يلبس الحقيقة له عدة أشكال: أمور نفسية كالكسل والشهوة والإحباط، الاكتئاب، وموانع اجتماعية كالظلم، والفقر،
وشبهات روحية، وأخرى فكرية ، حينما يكون هناك خلطاً في فهم معنى الحياة: فالإنسان في قرارة نفسه يميز بين حياة البدن وحياة الروح، لكنه في التطبيق العملي يخلط بينهما، ويحسب أنّ سعادته تنحصر في طعام طيب، وحياة فارهة رغيدة.
رغم أن الحياة قائمة على (المعنى) على نحو متقدم من قيامها على ( المادة)، وأن الإنسان روح غير الجسد، ولكن الغافل يركز على الشكل وعلى متطلباته المادية.
ورغم أن هناك تنبيهاً دائماً على التركيز على الهدف والمعنى وراء (شكل الحياة)، وعدم الضياع في وسط الطريق، ولكن غالباً ما ينشد الغافل وسط الطريق ليجمع ويتفاخر بما يجمع.
ورغم أن هناك تحذير من الاغترار والانخداع بالدنيا، وأن الدنيا قصيرة وأنها امتداد ومزرعة للأخرة. وفي الغالب لا ينتبه الغافل إلى ذلك.
ورغم أن الحياة قائمة على أسس التغير ، لكن الغافل يتضايق منه.
ورغم أن الصادقين يحذرون من عداوة الإنسان لنفسه ، ولكن غالبا لا ينتبه الغافل لذلك.
ورغم أن هناك تنبيه على التقوى كأساس تنبني عليه الأفكار والأعمال، ولكن غالباً الغافل يعطي تبريرات لأعماله ويخضع للعقل الجمعي .
ورغم أن هناك تركيز على المعرفة كأساس لوجود الإنسان، لكن الغافل في الغالب يركز على المشاعر وهي التي تقوده بشكل رئيسي.
إذاً، ما لم تعالج أصل رؤية الإنسان لحياته، لن يستطيع أن يتمتع بمذاق الحياة الطيبة وإن كان يتمناها، ويعلم أنها في اتباع سبيل النبي وآله ﷺ .
بعد ذلك يأتي دور المسائل المعرفية الفكرية، هناك شبهات تسري في الوسط الفكري قد تؤثر على اختيار الإنسان:
-
لماذا خلقنا الله تعالى ؟ كيف نعرف الله؟
-
ما الدليل على أن حل مشاكلنا يتم بالدين ؟ البعض أخذ يقولها تصريحاً أو تلميحاً: إنّ مشكلتنا في الدين نفسه وفي نصوصه، فما هو الدليل على أن الدين وصل إلينا صحيحاً؟
-
لماذا خلق الله الشر؟ لماذا يبتلينا الله بالمصائب؟
-
لماذا يسمح الله بوجود الظلم؟
-
لماذا يعاقب الله بعض المجتمعات المسلمة بالكوارث والمصائب الجماعية بينما يترك مجتمعات منحلّة دينياً وأخلاقياً في أمن ورغد من العيش؟
-
إذا كانت هناك حكمة في المصائب الفردية والجماعية، فماذا عن الأطفال والمجانين وما يتعرضون له من كوارث مع أنهم ليسوا مكلَّفين؟
-
لماذا التفاوت في الرزق من حيث المال والجمال والصحة وغير ذلك؟ أليس هذا التفاوت يتعارض مع العدل الإلهي؟
-
إذا كان الله غنيًاً عنا فلماذا يعذبنا؟
-
هل نحن مسيّرون أم مخيّرون؟ وإذا كان الله قد كتب علي أن أكون كافراً فما فائدة البحث عن الإيمان؟ وغير ذلك من الشبهات،